سورة النمل - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


قلت: قرأ الجمهور: {ادّارَكَ} بالمد، وأصله: تدارك، فأدغمت التاء في الدال، ودخلت همزة وصل. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: {ادّرك}، وأصله: افتعل، بمعنى تفاعل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {أدرك} أفعل.
يقول الحق جل جلاله: {بل ادّارك} أي: تدارك وتناهى وتتابع أسباب {عِلْمُهم في الآخرة} أي: بالآخرة، أو: في شأنها، بما ذكرنا لهم من البراهين القطعية، والحجج العقلية، على كمال قدرتنا. ومع ذلك لم يحصل لهم بها يقين، {بل هم في شكٍّ منها}، والمعنى: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكّنوا من معرفته بما تتابع لهم من الدلائل. زمع ذلك لم يحصل لهم شيء من علمها، بل شكّوا. أو: أدرك علمهم، بمعنى: يدركهم في الآخرة حين يرون الأمر عياناً، ولا ينفعهم ذلك. قاله ابن عباس وغيره. {بل هم} اليوم {في شكٍّ منها بل هم منها عَمُونَ} لا يُبصرون دلائلها، ولا يلتفتون إلى العمل لها. والإضرابات الثلاثة تنزيل لأحوالهم، وتأكيد لجهلهم. وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون بوقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة مع تتابع أسباب علمها، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية، ثم بما هو اسوأ حالاً، وهو العمى، وجعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، فلذا عداه ب من دون عن؛ لأن الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي منعهم عن التفكر والتدبر.
ووجه اتصال مضمون هذه الآية- وهو وصف المشركين- بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة بما قبله، وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب، وأن العباد لا علم لهم بشيء بذلك: هو أنه لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب، وكان هذا بياناً لعجزهم، ووصفاً لقصور علمهم، وصل به أن عندهم عجزاً أبلغ منه، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد من كونه- وهو وقت بعثهم، ومجازاتهم على أعمالهم: لا يكون، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه، لا محالة. اهـ. قاله النسفي.
{وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرَجُونَ} أي: أنُخرج من القبور أحياء إذا صرنا تراباً وآباؤنا. وتكرير الاستفهام في {أئذا} و {أَئِنا} في قراءة عاصم، وحمزة؛ وخلف، إنكار بعد إنكار، وجحود بعد جحود، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه. والعامل في (إذا): مادلّ عليه {لمخرجون} وهو: نُخرج، لا مخرجون، لموانع كثيرة. والضمير في {أئنا} لهم ولآبائهم.
{لقد وُعِدْنَا هذا} البعث {نحن وآباؤنا من قبلُ}؛ من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، قدّم هنا {هذا} على {نحن} وفي المؤمنون قدّم {نحن}؛ ليدل هنا أن المقصود بالذكر هو البعث وثمَّ المبعوث؛ لأن هنا تكررت أدلة البعث قبل هذا القول كثيراً، فاعتنى به بخلاف ثم.
ثم قالوا: {إنْ هذا إلا أساطيرُ الأولينَ}: ما هذا إلا أحاديثهم وأكاذيبهم. وقد كذبوا، ورب الكعبة.
الإشارة: العلم بالآخرة يَقْوى بقوة العلم بالله، فكلما قوي اليقين في جانب الله قوي اليقين في جانب ما وعد الله به؛ من الأمور الغيبية، فأهل العلم بالله الحقيقي أمور الآخرة عندهم نُصب أعينهم، واقعة في نظرهم؛ لقوة يقينهم. وانظر إلى قول حارثة رضي الله عنه حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حقيقة إيمانك؟» فقال: يا رسول الله؛ عزَفَتُ الدنيا من قلبي، فاستوى عندي وذهبا ومدرها. ثم قال: وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وأهل النار يتعاوون فيها، فقال له صلى الله عليه وسلم: «قد عرفت فالزمْ، عبدٌ نوّر الله قلبَه» اللهم نَوِّر قلوبنا بأنوار معرفتك الكاملة، حتى نلقاك على عين اليقين وحق اليقين. آمين.


يقول الحق جل جلاله: {قُلْ} لهم: {سيروا في الأرض فانظر كيف كانت عاقبةُ المجرمين} بسبب تكذيبهم للرسل- عليهم السلام- فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله- عز وجل- وحده، واليوم الآخر، الذي ينكرونه، فإن في مشاهدة عاقبتهم ما فيه كفاية لأولي البصائر. وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين، لطف بالمسلمين، بترك الجرائم، وحث لهم على الفرار منها، كقوله: {فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ} [الشمس: 14] و{مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ} [نوح: 25].
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولا تحزنْ عليهم} أي: لأجل أنهم لم يتبعوك، ولم يُسْلِموا فَيَسْلَمُوا. {ولا تكن في ضَيْقٍ}؛ في حرج صدر {مما يمكرون}؛ من مكرهم وكيدهم، أي: فإن الله يعصمك من الناس. يقال: ضاق ضيقاً- بالفتح والكسر.
{ويقولون متى هذا الوعدُ} أي: وعد العذاب التي تعدنا، إن كنت من الصادقين في إخبارك بإتيانه على من كذّب. والجملة باعتبار شركة المؤمنين في الإخبار بذلك. {قل عسى أن يكون رَدِفَ لكم بعضُ الذي تستعجلون} أي: تبعكم ولحقكم. استعجلوا العذاب، فقيل لهم: عسى أن يكون رَدِفَ، أي: قرب لكم بعضه. وهو عذاب يوم بدر، واللام زائدة للتأكيد. أو: ضمّن الفعل معنى يتعدّى باللام، نحو: دنا لكم، أو: أزف لكم. وعسى ولعل وسوف، في وعد الملوك ووعيدهم، يدل على صدق الأمر، وجدّه، وعلى ذلك جرى وعد الله، ووعيده.
{وإن ربك لذُو فضلٍ على الناس} أي: إفضال وإنعام على كافة الناس. ومن جملة إنعامه: تأخير العقوبة عن هؤلاء، بعد استعجالهم لها، {ولكنَّ أكثرهم لا يشكرون} أي: أكثرهم لا يعرفون حق النعمة، ولا يشكرونها، فيستعجلون بجهلهم وقوع العذاب، كدأب هؤلاء. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التفكر والاعتبار من أفضل عبادة الأبرار، ساعة منه أفضل من عبادة سبعين سنة. ومن أجلّ ما يتفكر فيه الإنسان: ما جرى على أهل الغفلة والبطالة والعصيان، من تجرع كأس الحِمام، قبل النزوع والإقلاع عن الإجرام، فندموا حيث لم ينفع الندم، وقد زلَّت بهم القدم، فلا ما كانوا أمَّلوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم من الأعمال الصالحات رجعوا. فليعتبر الإنسان بحالتهم، لئلا يجري عليه ما جرى عليهم، وليبادر بالتوبة إلى ربه، وليشهد يده على أوقات عمره، قبل أن تنقضي في البطالة والتقصير، فيمضي عمره سبهللاً. ولله در القائل:
السِّبَاق السِّبَاقَ قَوْلاً وَفِعْلاً *** حَذِّرِ النَّفْسَ حَسْرةً المسْبُوقِ
قال أبو على الدقاق رضي الله عنه: رؤي بعضهم مجتهداً، فقيل له في ذلك، فقال: ومن أولى مني بالجهد، وأنا أطمع أن ألحق الأبرار الكبار من السلف. اهـ. ويقال للواعظ أو للعارف، إذا رأى إدبار الناس عن الله، وإقبالهم على الهوى: {ولا تحزن عليهم..} الآية.


يقول الحق جل جلاله: {وإن ربك لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ} أي: تخفي {صُدورُهُم وما يُعلنون} أي: يُظهرون من القول. وليس تأخير العذاب عنهم لخفاءَ حالِهم عليه، ولكن له وقت مقدار، فيمهلهم إليه. أو: إن ربك ليعلم ما يخفون وما يُعلنون من عداوتك ومكايدهم لك، وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقونه. وقرئ بفتح التاء، من: كننت الشيء: سترته.
{وما من غائبةٍ في السماء والأرض} أي: من خافية فيهما {إلا في كتاب مبين} في اللوح المحفوظ. يُسمى الشيء الذي يخفى ويعيب غائبه وخافية. والتاء فيهما كالتاء في العاقبة والعافية. ونظائرهما، وهي أسماء غير صفات. ويجوز أن يكونا صفتين، وتاؤهما للمبالغة، كالرواية. كأنه قال: وما من شيء شديد الغيوبة إلا وقد علمه الله، وأحاط به، وأثبته في اللوح المحفوظ. ومن جملة ذلك: تعجيل عقوبتهم، ولكن لكل شيء أجل معلوم، لا يتأخر عنه ولا يتقدم. ولولا ذلك لعَجَّل لهم ما استعجلوه. والمُبين: الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة: أو: مبين لما فيه من تفاصيل المقدورات. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية حث على مراقبة العبد لمولاه، في سر وعلانيته، فلا يفعل ما يخل بالأدب مع العليم الخبير، ولا يجول بقلبه فيما يستحيي أن يظهره لغيره، إلا أن يكون خاطراً ماراً، لا ثبات له، فلا قدرة للعبد على دفعه. وبالله التوفيق.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9